الأحد، 18 سبتمبر 2022

قراءة في "ذاكرة للنسيان" للكاتب محمود درويش- بقلم ذ.خالد اليعقوبي

 

قراءة في كتاب "ذاكرة للنسيان" للكاتب الفلسطيني محمود درويش

بقلم ذ.خالد اليعقوبي

  يقال أن عتبة النص عنوانه منه يتلمس القارئ معالم النص،  ويستقصي مطالع الحكاية، ولكن ما الذي يمكن أن يبوح به عنوان كـ"ذاكرة للنسيان"؟ عبارة تحمل الشيء وضده في تهشيم صارخ لبديهيات المنطق،  كيف ننسى ما ندونه ونعقله ونتذكره؟  بل ما الذي يجبرنا على تخليد ما ينبغي نسيانه وطمسه؟ أليست الذاكرة حنين واسترجاع للفصل الأجمل في الحكاية، فكيف تولد الذاكرة من جرح؟

 

ذاكرة للنسيان نص عبثي مجنون متمرد يرفض حتى التصنيف والتجنيس هل هو رواية أم سيرة أو مذكرة، أو خواطر؟ هل هو أساسا كتاب نثر أو شعر؟ كلما ضيقت عليه الخناق لتحجزه كالأرنب في إحدى القبعات الأدبية نط إلى غيرها، تراه تارة مذكرة ليوم من أيام محمود درويش تحت حصار بيروت يسرد هول اللحظة ومآسيها، وتارة رحلة سردية في تفاصيل الجرح الفلسطيني، وأحيانا يقفز إلى التراث العربي ليفصل في مرادفات الماء، وحينا يصير مؤرخا مع ابن الأثير ليسرد تفاصيل الخلق، وقد يغادر بيروت المحاصرة من كل الجهات برا وبحرا وجوا إلى يافا لملاقاة حبيبته اليهودية ريتا، وأحيانا يتحول النص إلى قصيدة وهو يصرخ:

أشلاؤنا أسماؤنا...لا...لا مفر

سقط القناع عن القناع عن القناع

لا إخوة لك يا أخي لا أصدقاء 

لا القلاع 

لا الماء عندك ولا الدواء، ولا السماء ولا الدماء ولا الشراع..

        شاعرية تخترق حتى المنثور من الكلام، بلغة جميلة  تخطف انتباه القارئ من أول الكتاب إلى منتهاه. فما هذا الجنون الذي يطوق هذا النص من عنوانه وجنسيته ويخترقه من الدفة إلى الدفة؟ 

        إذا كانت عتبة النص عنوانه  فإن النص هو بيئته وسياق إنتاجه فما الذي يميز لحظة تكون هذه الذاكرة التي أرادها محمود للنسيان، فصارت واقعا يتجول بين المدن والعواصم العربية.


        ذاكرة للنسان كتاب صدر للشاعر الفلسطيني محمود درويش سنة 1987، لكنه يتحدث عن حصار الاحتلال الصهيوني لبيروت مابين 1980-82، وبذلك يفتح صفحة من الصفحات الأكثر دموية  في تاريخ بيروت ولبنان المعاصر، حرب لبنان، امتدت ما بين 1975-90 خمسة عشر عاما من الاقتتال الداخلي، حرب طائفية وسياسية، نخرت جسد لبنان، وكانت حينها منظمة التحرير الفلسطينية  في لبنان بزعامة أبو عمار ياسر عرفات في لبنان جزء من هذا الصراع. 

        انقسم الفاعلون السياسيون في بيروت  بين داعم لمنظمة التحرير الفلسطينية ويتقدمهم الحزب الشيوعي اللبناني، وبين رافض لتواجدها في لبنان من زاوية قومية ضيقة يمثلها حزب الكتائب المكون من عناصر مسيحية يقودها بشير الجميل والمدعومة إسرائيليا وكانت وراء مذابح السبت الأسود، ومجزرة الكرنتينا، ومجزرة مخيم تل الزعتر راح ضحيتها زهاء 3000 فلسطيني، ثم اقتحام مخيمي  شاتيلا وصبرا في 16 سبتمبر 1982 في مشهد  دموي مرعب استمر ثلاث أيام سفكت فيها دماء أزيد من 3500 فلسطيني من الأطفال والنساء والشيوخ، بعدما انسحبت قوات منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان. 

 

وجد الفلسطينيون أنفسهم في لبنان كالأيتام في مأدبة اللئام، فقدوا وطنهم وهاجروا من معظم العواصم العربية،  حتى بيروت التي حضنتهم ردحا من الزمن هوت بهم كنجمة من السماء،  لما حاصرتها قوات الاحتلال الصهيوني في يونيو 1982، واحتلت جنوب لبنان وتعرضت بيروت الغربية  -معقل الفصائل الفلسطينية- لقصف همجي بربري، حوصرت المدينة برا وجوا وبحرا، إلى أن سويت معظمها بالأرض، خلف هذا الدمار الهائل 30 ألف قتيل، وآلاف الجرحى والنازحين، حصيلة كارثية أجبرت المنظمة الفلسطينية على مغادرة بيروت إلى تونس، بينما وزع مقاتلوها على باقي الدول العربية.

 

        جنون هذا النص من جنون لحظة تشكله لقد عاين درويش في بيروت كل أشكال القتل، قتل العدو الصهيوني في يوم من أيام هيروشيما استعملت فيه أحدث الأسلحة والقنابل كالقنبلة الفراغية التي تنفجر وتمتص الأوكسجين من أجساد الضحايا وتتركه فارغا، وقتل ذوي القربى وصمت هذا العالم الأخرق.

        فرض هذا المشهد المهيب على درويش الارتقاء بقصيدته لمعانقة الوجع الفلسطيني رغم اعترافه غير ما مرة أنه:

ليس في وسع القصيدة 

أن تغير ماضيا يمضي ولا يمضي

ولا أن توقف الزلزال

ورغم تحذيره من كتابة التاريخ شعرا، لأن السلاح هو المؤرخ. 

        فأنتجت التجربة اللبنانية أربع ملاحم كبرى عن مأساة اللاجئ الفلسطيني هي: أحمد العربي، ملهاة النرجس، مأساة فضة، قصيدة بيروت ومديح الظل العالي، وهذا النص النثري ذاكرة للنسيان. كلها تغنت بوحدة الفلسطيني وخذلانه، بغربته وعزلته، بآلامه ووجعه، ببطولته وانكساره...

        لقد اختبر الفلسطيني الاحتلال والتهجير والقتل والسلب والاعتقال والمنفى في فلسطين وخارجها منذ النكبة، ولكنه في بيروت اختبر ألم الوحدة والعزلة وسط دعاية الأنظمة العربية الالتزام بالحق الفلسطيني  وهرولتها للتطبيع في الخفاء والعلن فكتب في ص 195 من ذاكرة للنسيان:

"لا أحب أحدا ولا أكره أحدا ولا أريد أحدا ولا أحس بشيء. لا ماض ولا مستقبل، لا جذوز ولا فروع، وحيد كتلك الشجرة المهجورة في العاصفة الكبرى على سهل مفتوح".

        وفي قصيدة مديح الظل العالي صرخ بأعلى صوته في حضرة قادة منظمة التحرير الفلسطينية يتقدمهم الزعيم أبو عمار ياسر عرفات.

وحدي أدافع عن هواء ليس لي 

وحدي على سطح المدينة واقف

أيوب مات، وماتت العنقاء وانصرف الصحابة.

وحدي أراود نفسي الثكلى فتأبى أن تساعدني على نفسي 

ووحدي...كنت وحدي

عندما قاومت وحدي...وحدة الروح الأخيرة.

وفي مقطع آخر من ذات القصيدة يتغنى بوحدته ويحذر من استغلال الحاكم العربي لقضيته فيقول:

كم كنت وحدك، يا ابن أمي 

ياابن أكثر من أب كم كنت وحدك...

لا بر إلا ساعداك 

فتقمص الأشياء كي تتقمص الأشياء خطوتك الحراما

واسحب ظلالك من بلاط الحاكم العربي حتي لا يعبقها وساما.

        تكررت مأساة الخذلان في شعر درويش خلال التجربة اللبنانية رغم أن الشارع العربي من الخليج إلى المحيط أنشد معه في ملحمة أحمد الزعتر :

"مضت الغيوم وشردتني 

ورمت معاطفها الجبال وخبأتني 

نازلا من نحلة الجرح القديم إلى تفاصيل البلاد 

وكانت السنة انفصال البحر عن مدن الرماد

وكنت وحدي 

ثم وحدي 

أه ووحدي."

        لقد تكرر خطاب الوحدة إلى حد جعلني أعتقد أن درويش أراد نسيان كل شيء من التجربة اللبنانية إلا أنه وحيد، وأراد للفلسطيني أن يشق سبيل حريته وحده "فلا إخوة لك يا أخي ولا أصدقاء".

        في ذاكرة للنسيان وجع الوحدة والخذلان يرافقه دوما كابوس الموت والقتل، كأنهما وجهان لعملة واحدة، لقد ترك الفلسطيني أعزلا أمام نكبته، وعندما حاول الهرب تعقبه الموت  في كل المدن والعواصم، وها هو يدركه  في بيروت  في أشد صوره قبحا ووحشية. يستطيع القارئ أن يشم رائحة الموت، رائحة الجثث تتعفن تحت الأنقاض في مشهد سوريالي يصف الموت وما بعد الموت يقول درويش:    

"دود يأتي من المجهول، ومن التراب، ومن الجثة ذاتها، الجثة تأكل نفسها بجيش حسن التنظيم يطلع منها في لحظات. إنها صورة تفرغ الإنسان من بطولته ومن لحمه، وتدفع به في عراء المصير العبثي، في العبث المطلق، في العدم الكامل، صورة تجرد الأناشيد من مديح الموت ومن الفرار إلى الفرار. أمن أجل التغلب على بشاعة هذه الحقيقة فتح الخيال البشري فضاء لخلاص الروح من هذا العدم؟ أهذا ما يقترحه الدين والشعر من حل؟".

        تكسرت كل القيم والشعارات الإنسانية الرنانة أمام هذا الواقع المأساوي، انكسار أخلاقي جديد للضمير الإنساني وهو يتابع بصمت، "كل ما تمخض عنه الخيال البشري من إبداعات الشر الخارقة، وما بلغته التكنولوجيا من تقدم يجري امتحان فاعليته في جسد اللاجئ الفلسطيني." نفي من المنفى، ومصادرة للوجود، تعب الفلسطيني من الفرار إلى الفرار، ضاقت به الأرض تحت سماء بيروت كما لفظته كل العواصم العربية سلفا. تلك محنة الفلسطيني الأبدية نص طراودي يقاوم الاندثار وغلبة الزمن ليعبر في الحكاية، وطنا وشعبا.

 

        ذاكرة درويش كانت شاهد عيان عن لحظة مؤلمة من لحظات الجرح الفلسطيني سردها بكل تفاصيلها الحزينة في قصيدة انتقيت كلماتها وأسطرها من شوارع بيروت، ونظمت على وزن بحر ليلها الطويل. قصيدة أرادها للنسيان فصارت أنشودة نثرت في عدة مدن عربية، من بيروت إلى بغداد، طرابلس، دمشق وحلب حمص وحماة وعدن وصنعاء وتعز... كأنها هويتنا إلى الأبد.

اعلان 1
اعلان 2

0 التعليقات :

إرسال تعليق

عربي باي