بقلم : سليم ياسين
لم تعد المدرسة، في السياق المغربي، فضاءً آمناً للتعلم والتربية كما كانت تُصوَّر تقليديًا. فقد أصبح العنف بمختلف أشكاله يتسلل إلى أسوارها، حتى بات بعض الأساتذة ضحايا له، لفظيًا وجسديًا، من قبل تلامذتهم أو محيطهم. هذه الظاهرة، التي تتنامى في ظل تحولات اجتماعية وتربوية عميقة، تطرح تساؤلات جوهرية حول مكانة المدرسة في المجتمع، ودور الأستاذ الذي تراجع من موقع الهيبة إلى موقع الاستضعاف. في هذا المقال، نسلط الضوء على مظاهر العنف داخل المؤسسات التعليمية، أسبابه، انعكاساته، وسبل معالجة الوضع بما يضمن كرامة المدرّس وجودة الفعل التربوي
يُعتبر العنف داخل المؤسسات التعليمية من الظواهر التي باتت تشكّل مصدر قلق حقيقي للأسرة التربوية والمجتمع ككل، نظرًا لتأثيره السلبي على سير العملية التعليمية وعلى العلاقات داخل الفضاء المدرسي. وتتخذ هذه الظاهرة أشكالًا متعددة تتفاوت من حيث الشدة والخطورة، وتنبع من عوامل فردية واجتماعية ومؤسساتية متداخلة.
يظهر العنف الجسدي بشكل واضح من خلال المشاجرات المتكررة بين التلاميذ، والتي قد تصل إلى استعمال أدوات حادة أو إلحاق أذى جسدي خطير بالآخرين، كما لا تخلو بعض المؤسسات من حالات اعتداء تلاميذ على أساتذتهم أو أطر الإدارة، مما يعكس تراجعًا في سلطة المدرسة وفي احترام رموزها. إلى جانب ذلك، نجد أشكالًا أخرى من العنف الجسدي، مثل تعمّد إتلاف ممتلكات الغير أو تخريب البنية التحتية للمؤسسة.
أما العنف اللفظي، فيُعتبر من أكثر الأشكال شيوعًا، ويتمثل في تبادل السب والشتم بين التلاميذ أو في حق الأساتذة، ويتّخذ أحيانًا طابعًا تمييزيًا أو عنصريًا، خصوصًا حين يتم السخرية من المظهر الخارجي أو الوضع الاجتماعي لبعض التلاميذ. وقد يُفضي هذا النوع من العنف إلى آثار نفسية عميقة يصعب تداركها، خاصة إذا كان موجهًا باستمرار لنفس الأفراد.
يتجلّى العنف النفسي بدوره في التنمر، الذي قد يتخذ صيغًا متعددة من الإقصاء الاجتماعي، أو التحقير المتكرر، أو ممارسة ضغط نفسي على بعض التلاميذ، إما من طرف زملائهم أو من أطراف معينة داخل المؤسسة. ويؤدي هذا النوع من العنف إلى ضعف الثقة في النفس، وتراجع الأداء الدراسي، وأحيانًا إلى الانقطاع عن الدراسة.
ومع تطور التكنولوجيا، ظهرت أنماط جديدة من العنف تُمارَس عبر الوسائط الرقمية، حيث أصبح بعض التلاميذ عرضة للتشهير أو التهديد من خلال منصات التواصل الاجتماعي، أو يتم تصويرهم داخل المؤسسة دون علمهم ونشر مقاطع تمسّ بكرامتهم. ويُعد هذا العنف الرقمي امتدادًا للعنف الواقعي، لكنه أكثر خفاءً وأصعب من حيث المراقبة والردع.
ولا ينبغي إغفال العنف الرمزي أو المؤسساتي، الذي يتمثل في غياب الإنصاف داخل الفضاء المدرسي، أو في اعتماد أساليب تربوية تقوم على التهديد والترهيب بدل الحوار والتفاهم، مما يُفقد المدرسة دورها التربوي، ويحوّلها إلى فضاء للضغط والإكراه بدل أن تكون فضاء للتنمية والتكوين.
إنّ التصدي لظاهرة العنف المدرسي لا يقتصر على إجراءات سطحية أو ظرفية، بل يقتضي مقاربة شمولية تضع في صلب أولوياتها إصلاح المناخ التربوي، وتعزيز القيم الإنسانية، وتكريس ثقافة الحوار داخل الفضاء المدرسي. فالمؤسسة التعليمية لا ينبغي أن تقتصر وظيفتها على نقل المعارف فقط، بل يجب أن تُؤهَّل لتكون فضاءً آمنًا يضمن النمو المتوازن للمتعلّمين على المستويات النفسية والاجتماعية والسلوكية.
من أولى الخطوات الضرورية في هذا الإطار، إعادة الاعتبار للدور التربوي للمؤسسة، من خلال تقوية العلاقة بين الأسرة والمدرسة، وتشجيع التواصل المستمر بين الأطر التربوية والآباء، بهدف خلق بيئة داعمة للتلميذ في مختلف أبعاده. كما ينبغي تعزيز البرامج التربوية التي تُرسخ قيم التسامح، والتعاون، واحترام الاختلاف، عبر إدماج أنشطة الحياة المدرسية والورشات التحسيسية ضمن المنهاج غير الرسمي.
ومن جهة أخرى، فإن توفير الدعم النفسي داخل المؤسسة يُعدّ عنصرًا حاسمًا في الوقاية من السلوكات العنيفة. إذ تبرز الحاجة الملحة إلى تخصيص موارد بشرية مؤهلة، مثل الأخصائيين النفسيين والاجتماعيين، القادرين على مواكبة التلاميذ الذين يعانون من صعوبات شخصية أو سلوكية، وتقديم الدعم اللازم لهم قبل أن تتحول أزماتهم إلى مظاهر عنف.
في المقابل، يستوجب الوضع التربوي أيضًا تأهيل الأطر التربوية والإدارية في مجال تدبير الخلافات، وتطوير مهارات الإنصات، والتواصل الإيجابي مع التلاميذ. فكلما شعر المتعلم بالاحترام والاحتواء، كلما زادت قدرته على ضبط نفسه وتجاوز توتراته بشكل سليم. كما أن توفير تكوين مستمر للأساتذة حول الذكاء العاطفي، والبيداغوجيا الفارقية، وأساليب التحفيز، يمكن أن يُحدث تحولًا عميقًا في بنية القسم والعلاقات داخله.
ولا يمكن التغاضي عن دور الحياة المدرسية في معالجة العنف، حيث تُمثل الأنشطة الثقافية والفنية والرياضية مجالات رحبة لتفريغ التوتر وبناء الثقة بالنفس، وتعزيز روح الجماعة والانتماء. إن إدماج التلميذ في مشاريع جماعية ذات بعد إبداعي أو تضامني يجعله يُعبّر عن ذاته بطريقة إيجابية، ويطوّر مهاراته الاجتماعية، بدل الانغلاق أو التمرد.
أخيرًا، فإن إعادة الاعتبار للمؤسسة التعليمية تقتضي أيضًا تأهيل فضاءاتها وتجهيزها لتكون بيئة جاذبة وآمنة، تحترم كرامة التلميذ وتُحفّزه على الحضور والمشاركة. فالمؤسسة التي تُوفّر شروط الراحة النفسية والمادية هي نفسها التي تُنتج تلميذًا متوازنًا وسويًّا، وقادرًا على التعلّم والنجاح دون عنف.
في ضوء هذه المعطيات، تبدو معالجة العنف المدرسي مهمة جماعية تتقاسمها الأسرة، والمدرسة، والمجتمع، وتقوم على رؤية تربوية تؤمن بأن التلميذ ليس فقط متلقّيًا للمعرفة، بل إنسانًا في طور التكوين، يحتاج إلى العناية، والتقدير، والحوار المستمر.
0 التعليقات :
إرسال تعليق