الأربعاء، 7 مايو 2025

التربية الإسلامية ورهانات الهوية والقيم: قراءة تحليلية في بيان الجمعية المغربية لأساتذة التربية الإسلامية (ماي 2025)


 بقلم : سليم ياسين 

يعد البيان الصادر عن الجمعية المغربية لأساتذة التربية الإسلامية في ماي 2025 وثيقة تربوية تتجاوز مضمونها الظاهر إلى ما هو أعمق من المواقف الظرفية أو المطالب المهنية. إنها وثيقة تعكس وعياً استراتيجياً بمآلات المدرسة المغربية، وتضع مادة التربية الإسلامية في قلب الرهان الحضاري الذي يعيشه المغرب في سياق تحولات اجتماعية وثقافية معقدة. وإذ يأتي البيان تحت شعار “التربية الإسلامية: رهانات الحاضر وتحديات المستقبل”، فإنه لا يعبر عن مجرد موقف من وضعية بيداغوجية، بل يستبطن رؤية شمولية لمشروع مجتمعي متكامل تتداخل فيه الأبعاد التربوية والهوياتية والقيمية.


ينطلق البيان من إدراك حاد بأن موقع مادة التربية الإسلامية في المنظومة التعليمية لم يعد يواكب أهمية الرهانات المطروحة على المدرسة. فالمادة لم تعد تُعامل باعتبارها مكوناً معرفياً موجهاً للسلوك فقط، بل أصبحت اليوم في صلب معركة الحفاظ على المرجعية الحضارية للبلد، وعلى التوازن الروحي والقيمي للأجيال الصاعدة. لذلك، فإن مطالبة الجمعية بإعادة الاعتبار للمادة، ورفع حصتها الزمنية، وتحسين منهجها، وتوسيع حضورها في الفضاءات التعليمية، ليست سوى تعبير عن هذا القلق العميق من إفراغ المدرسة من بعدها التربوي الأصيل.


كما يبرز في البيان هاجس الدفاع عن المدرسة المغربية كمجال لصيانة الهوية الإسلامية، في مقابل نزوع بعض المقاربات البيداغوجية الحديثة إلى تفكيك البنية المرجعية للقيم التربوية. من هذا المنطلق، يمكن فهم تأكيد البيان على أهمية جعل التربية الإسلامية مادة محورية في كل أسلاك التعليم، ليس فقط من حيث الحجم الساعي، بل من حيث إعادة بناء مناهجها لتستجيب لتحولات الواقع، دون التفريط في مرجعيتها العقدية والأخلاقية. فالجمعية هنا لا تكتفي بالدفاع عن موقع المادة داخل المقرر، بل تدعو إلى صياغة رؤية بيداغوجية متكاملة قادرة على تأطير الناشئة في زمن التشظي القيمي والانفجار المعلوماتي.


وما يعمق هذا الطرح هو استحضار البيان لبعد الصراع الرمزي في المجال التربوي. فاللغة المستعملة، والإحالات المتكررة إلى الهوية الوطنية والروحية، تشير إلى أن الأمر يتعلق بمواجهة ضمنية مع نماذج تعليمية ذات نزوع غربي ، تعمل على تحييد القيم الدينية من المجال المدرسي، أو اختزالها في تمارين معرفية جامدة. وفي المقابل، يسعى البيان إلى إعادة الاعتبار للتربية الإسلامية كحقل يسهم في بناء الذات الإنسانية من الداخل، بما يحصن المتعلم من الانزلاق نحو العنف أو الفراغ القيمي.


إن إحدى النقاط اللافتة في البيان هي الربط بين التربية الإسلامية والقضية الفلسطينية، وهو ربط غير بريء دلالياً. فالإشارة إلى الاحتلال الصهيوني وما يتعرض له الشعب الفلسطيني من انتهاكات، يتجاوز حدود التضامن التقليدي ليصبح دعامة رمزية لخطاب مقاوم، يرى في المدرسة مجالاً لتشكيل وعي نقدي يعيد الاعتبار للقضايا الكبرى للأمة. هكذا تصبح التربية الإسلامية ليست فقط مادة تعليمية، بل مجالاً استراتيجياً لبناء مواطن منخرط في الدفاع عن العدالة والكرامة وحقوق الإنسان وفق مرجعيته الحضارية.


ومع أن البيان يحرص على خطاب توافقي، منفتح على الحوار مع مختلف الفاعلين التربويين والمؤسسات الرسمية، إلا أنه في العمق يعكس رغبة ضمنية في إعادة رسم الحدود الفاصلة بين المرجعيات المتنافسة داخل الحقل التعليمي. إنه دعوة لإعادة التوازن في السياسات التربوية، من خلال توسيع مساحة حضور المرجعية الإسلامية في صلب العملية التربوية، باعتبارها عاملاً أساسياً في بناء الاستقرار المجتمعي.


من خلال هذا التحليل، يمكن القول إن بيان الجمعية المغربية لأساتذة التربية الإسلامية يشكل منعطفاً مهماً في مسار الدفاع عن التربية القيمية في المغرب. فهو ليس مجرد موقف ظرفي، بل وثيقة تعكس وعياً متقدماً بمخاطر التهميش الثقافي، وتطمح إلى المساهمة في بلورة مشروع تربوي منسجم مع مقومات الهوية المغربية. ومادامت المدرسة تشكل الحاضنة الأولى لتشكيل وعي الأجيال، فإن مستقبل المجتمع المغربي سيظل رهيناً بقدرتنا على بناء تربية تستبطن المرجعية الإسلامية، وتمنح المتعلم أفقاً روحياً وأخلاقياً قادراً على مواجهة تحديات الحاضر وتحولات المستقبل.

الثلاثاء، 6 مايو 2025

أزمة الثقة بين الشغيلة التعليمية والحكومة: قراءة في بيان الجامعة الوطنية للتعليم


  


بقلم: ذ. سليم ياسين


في خضم سياق اجتماعي وتعليمي يتسم بالاحتقان والتوجس، جاء بيان الجامعة الوطنية للتعليم المنضوية تحت لواء الاتحاد المغربي للشغل بتاريخ 5 ماي 2025 ليعكس حجم الهوة المتسعة بين الشغيلة التعليمية ووزارة التربية الوطنية. فالبيان، وإن اتخذ طابعاً نقابياً، إلا أنه يحمل دلالات أعمق تتعلق بطبيعة العلاقة بين الدولة وممثلي الأطر التربوية، في ظل واقع يزداد تعقيداً.


لغة البيان جاءت مباشرة، حادة، ومليئة بالتنديد، حيث وجّه المكتب التنفيذي للنقابة اتهامات صريحة للوزارة بالتماطل والتسويف، وغياب الإرادة الحقيقية في معالجة الملفات العالقة، وعلى رأسها مخرجات اتفاقي 14 يناير و26 أبريل. ولم يقتصر الأمر على انتقاد الأداء الإداري، بل تعداه إلى التشكيك في صدق الخطاب الرسمي، الذي وصفه البيان بأنه مليء بالتضليل الإعلامي ومحاولة تسويق الوهم للرأي العام.


وراء هذه اللغة الغاضبة، يمكن تلمّس أزمة بنيوية في تدبير ملف التعليم بالمغرب، حيث لم تعد مطالب الشغيلة التعليمية محصورة في تحسين الأجور أو الترقية، بل أصبحت متصلة بكرامة الأطر، ومكانتهم داخل المنظومة، ومدى احترام الدولة لتعهداتها. بيان الجامعة الوطنية للتعليم ينقل بوضوح شعوراً عميقاً بالإهانة، ورفضاً صريحاً لما تعتبره النقابة “استبلاداً ممنهجاً” تمارسه الوزارة عبر تجاهل مطالبها.


في العمق، يكشف البيان عن انزلاق الحوار الاجتماعي نحو نفق مسدود، بعد أن غاب التفاعل الجاد من طرف الوزارة، وجرى تعليق جلسات الحوار دون توضيح الأسباب، وهو ما اعتبرته النقابة دليلاً على غياب الرغبة السياسية في الوصول إلى توافقات. كما جاء التنديد بتغليب منطق “الهروب إلى الأمام” على حساب الالتزامات السابقة، ليزيد من منسوب الاحتقان في صفوف الشغيلة.


البيان لم يكن مجرد صرخة احتجاج، بل كان إعلاناً ضمنياً عن الاستعداد للتصعيد. فالدعوة المفتوحة لنساء ورجال التعليم إلى المزيد من التكتل والنضال تشير إلى أن النقابة تعتبر المرحلة القادمة مصيرية في مسار الدفاع عن المدرسة العمومية، وتستدعي تعبئة شاملة لمواجهة ما تصفه بـ"العبث المؤسساتي" و"التهميش الممنهج".


من جهة أخرى، لا يمكن تجاهل أن البيان عبّر عن تصور بديل، يقوم على الشراكة الحقيقية والتفاوض المسؤول، لكنه ربط هذا الأفق بضرورة إظهار الوزارة لحسن النية من خلال تطبيق الاتفاقات واحترام الزمن التفاوضي. وهو موقف يعبّر عن نضج نقابي يعترف بأهمية الحوار، لكنه يشترط صدقيته وجدواه.


يبقى أن بيان 5 ماي ليس معزولاً عن سياق عام متوتر، بل يأتي امتداداً لسلسلة من ردود الأفعال الغاضبة تجاه تدبير الحكومة لهذا القطاع الحيوي. وإذا لم تسارع الوزارة إلى إعادة بناء جسور الثقة، فإن المدرسة العمومية مقبلة على مرحلة دقيقة، قد تتسم بعودة الإضرابات، وتعطيل السير العادي للدراسة، وفقدان ما تبقى من الأمل في إصلاح طال انتظاره.


في النهاية، قد تكون الرسالة الأهم في البيان هي أن الكرامة لم تعد شعاراً مرفوعاً، بل أصبحت جوهر الصراع ومحرّكه، وأن إنصاف الشغيلة التعليمية شرطٌ لا محيد عنه لإنقاذ التعليم العمومي من أزمته المستفحلة.



 

الأحد، 4 مايو 2025

مصطفى محمود ورحلة التقاء الدين والعلم


قراءة في كتاب: رحلتي من الشك إلى الايمان

إعداد: فاطمة الزهراء حبيدة – طالبة جامعية

عُرف الكاتب والطبيب المصري مصطفى محمود، بمزجه بين العلم والدين في كتباته وحتى برنامجه الشهير "العلم والإيمان"، إذ ساهم تكوينه في الطب من خلق نقاط الالتقاء بين العلم والدين، والخوض في مواضيع دينية ومجتمعية تثير الفضول والجدل، رغم تعرضه للنقد الشديد جراء ذلك، بداية بصدور أول عمل له "الله والانسان" الذي حُظر في مصر، ونال الكثير من الاتهامات بالإلحاد، والتكفير، لكن مع ذلك واصل مصطفى محمود الدفاع عن مشروعه الفكري، إلى أن صار منهجا يقتضى به، لحد وصفه من قبل المفكر الإسلامي محمد عمارة: "ان مصطفى محمود حارس الإيمان الديني".

تتميز أعمال مصطفى محمود بالجرأة الفكرية في التحليل والنقد، ليس لغرض التشكيك فقط، بل البحث عن الحقيقة، وعدم جعل الجهل يطال المعتقدات الدينية التي يتبناها المرء، ومن بين أعماله المثيرة للجدل، كتاب "رحلتي من الشك إلى الايمان" الذي تناول فيه عدة إشكالات متصلة بالدين، وهو موضوع تدوينتنا هذه بغاية الكشف عن أهم الأفكار التي تضمنها كتابه.

تضمن الكتاب 8 محاور، والمُلاحظ أن كل محور يكمل الاخر، وينبثق من أسئلة وجودية في الغالب ما نطرحها على أنفسنا في لحظات السكون (الله، الجسد، الروح، العدل الازلي، لماذا العذاب، الخلوة، التوازن الطبيعي، المسيح الدجال)، ففي كل محور يحلل ويفسر، تارة من منظور علمي وتارة من منظور ديني، دون أن يلغي أحدهما الاخر، ففي المحور الأول المعنون بـ"الله"، بسط من خلاله الأسئلة الوجودية التي يطرحها الفرد على نفسه، في لحظة تأمل، خاصة عند المراهقين، حيث يكون التساؤل حول الغاية من الخلق، والكون، وغيرها من الأسئلة الوجودية، في مقابل ذلك يرفض المحيط (المجتمع) الإجابة عن هذا النوع من الأسئلة ويعتبرها تمردا، وطيشا، وأنها تندرج ضمن الغيبيات ولا يجوز الخوض فيها.

سيتوصل الكاتب، بعد بحث طويل، إلى أن هذه الأسئلة -بالنسبة له- في عمقها لم تكن نابعة من البحث عن الحقيقة، بل لأن النقاش في الوجوديات كان نوعا من الموضة، وفرصة للتعبير عن القدرة على المساجلة، وأكد بأن ضعف الفطرة والجهل بالمنطق، هو ما يؤدي للخوض في الغيبيات بشكل سطحي.

ولحسن حظ الكاتب، أن شغفه بالعلوم، جعل مُنطلقه في كل تساؤل هو "العلم"، حيث يحضر المنطق، والنظرة الموضوعية، مما أتاح له المزج بين البعد الديني والعلمي، ليؤكد أن كلاهما متكامل ولا يلغي أحدهما الاخر.

أشار لإشكال الانبهار بالغرب، الذي ساهم في تبني نظرياتهم وأفكارهم وتغييب العلماء العرب، فأصبح من الـمُسلَم اعتبار كل ما يصدر عن الغرب هو الحقيقة، وأنهم أصل العلوم الحديثة، في حين أن الغرب أكملوا ما توقف عنده العلماء العرب.

إلى جانب دراسة مصطفى محمود لتخصص الطب الذي رسخ في ذهنه الخضوع للمنطق، والعقل العلمي المادي، اعتمادا على المبادئ العلمية، أكد على أن الدقة الكامنة في العالم والتنظيم المبهر للكون، ما هو إلا تجسيد لعظمة الاله، "وأن الله هو الوجود"، فهذه حقيقة التي بلغها مصطفى محمود بالعلم، بعد رحلة في متاهات الشك، أن الطريق والمرشد لحقيقة الوجود هو العلم، وكل الشكوك حول الخالق ليست إلا سفسطة وتناقض "وأن العلم الحق لا يتناقض مع الدين"، بل يؤكد معناه، وما يوقع الفرد في الشكوك هو "نصف العلم".

أما المحور الثاني فخصصه للخوض في بنية "الجسد"، حيث وضح أن الله تعالى خص كل فرد بفردانيته، وأن أصل البشر واحد، وكل فرد طابع وشخصية خاصة، لكن تساؤله الجوهري في هذا المحور، حدده في أي شخصية نبعث؟، ليجيب مصطفي محمود، أننا نبعث كالبذرة التي تزهر وتثمر، من الفروع إلى الأوراق ثم الثمار، أي بصورة كلية، أما الذات فهي الوجه الاخر للحقيقة، فالحقيقة هي الإدراك الفعلي الذي لا يمكن بلوغه إلا من خلال الانفصال عن البعد الزمني، فالزمن يؤثر على الماديات، وتتفاعل معه، لكن الروح أو الذات المدركة منفصلة تماما عن الزمن، ويتجلى ذلك عند دراسة أي حالة، مستدلا بأنه "لا يمكن الإحاطة بأي ظاهرة كاملة أو إدراكها إلا من خلال الخروج عنها وملاحظتها كموضوع"، أي بعيدا عن التأثيرات الزمنية اللحظية.

ليخلص إلى أن الذات المدركة أو الروح هي وجود مستقل متعال عن الزمن ومتجاوز له ولا تتأثر به، وبالتالي فهي لا تعرف الموت، فيما عبر عن الوجود الروحي بأنه ذلك الحضور والادراك الذي لا يمكن مقارنته مع الحضور المادي الذي يتأثر بالزمن، فالروح هي المعيار لقياس الصواب من الخطأ، هو صوت الضمير، هو الحق والسريرة والحرية، والاختيار، والتميز.

ولأنه لا يمكن فصل الجسد عن الروح، خصص لهذه الأخيرة محورا كاملا، ليجيب عن سؤال عميق قلما يراودنا حول مصير الذكريات والصور والأرقام المخزنة في ذاكراتنا، وقد يبدو هذا السؤال ساذجا نوعا ما، لكن في كنهه يحمل دلالات عديدة، والجواب أن الذاكرة حكمها كحكم الروح، وبالتالي فذكرياتنا مصيرها الروح. أما بخصوص النظريات العلمية البديهية التي نوهم أنفسنا أننا نتعلمها، ما هي إلا تذكر لعلم قديم محفوظ في الروح وليس تعلما (تفصل كثيرا في هذه الجزئية وبحجج علمية).

أما في الجزء الثالث وتناول فيه "العدل الأزلي"، الذي يؤدي بنا لافتراض وجود عالم اخر تتحقق فيه العدالة، أو بتعبير اخر: "الاخرة"، ففكرة العدل الأزلي تقودنا لها الفطرة بشكل تلقائي، وتمكننا من اكتشاف الخطأ والصواب، وتمنح نوعا من الطمأنينة لدى الفرد، بوجود قوة عادلة، على اعتبار أن الكون مضبوط وخاضع لدقة لامتناهية، ولا مجال للعشوائية.

يتساءل البعض، أين يكمن العدل في ظل هذه الحروب والدمار؟ يجيب مصطفى محمود عن ذلك، أن قمة العدل تتجلى في "أن نتحمل اختياراتنا"، وأن الوضع الذي نحن عليه هو نتيجة لقرار وانعكاس للإرادة والافعال، من المنطق وعدل الله بنا أن نعيش اختياراتنا، كما أن عدالة الله هي محققة بشكل قطعي، لكن أغلبنا لا يرى الصورة كاملة، فالعدالة الإلهية ضرورية لتحقيق التوازن.

لينتقل بنا الكاتب إلى محور اخر لا يقل أهمية عن سابقه، وهو سؤال لابد أن يتبادر لذهن العديد منا، لماذا نعذب؟، يستهل مصطفي محمود هذا المحور، بتذكيرنا بمدى قوة الله، وعلوه المطلق على الظالمين، وأن عذاب الدنيا ما هو إلا تقويم لمسار حياتنا ليمنحنا درجة للارتقاء للأعلى، وأنها محاولة "إيقاظ لتتوتر الحواس ويتساءل العقل".

"ماذا قالت الخلوة؟" الخلوة هي لحظة صدق، لحظة إعادة ترتيب الذات عن طريق الحوار الداخلي الذي يشعرنا بتوقف الزمن، وتلك الحقيقة التي نهرب منها طوال الوقت، ونتجاهلها سواء بوعي أو بدون وعي. فالحق دائما متجلي فينا، لكن ما يسعنا فعله هو البحث عن الحق في دواخلنا، وإظهار فطرتنا الطبيعية، لتعبر عنا بتلقائية، لنتصل بالحقيقة، فالحق دائما يقودنا إلى الله.

وما لبث مصطفى محمود إلا أن يذكرنا بالتوازن الإلهي في كل محور، التوزان في المخلوقات، الكون، الهواء...، وأن كل شيء موضوع بمقدار مضبوط. وأنا اقرأ واتمعن في هذا المحور استحضرتني الآية الكريمة: "وخلق كل شيء فقدره تقديرا" (الآية 2، سورة الفرقان)، وكذلك "ولا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا احصاها" (الآية 49، سورة الكهف)، فهذا التوازن الكوني في المواد، والأشياء، ليس محض صدفة، أو عبث بل هو تقدير لخالق عظيم.

واختتم الكتاب، بمحور المسيح الدجال، الذي اعتبره بمثابة تجسيد لـ"أطماعنا المادية الداخلية"، إذ صرنا عبيدا للقوة المادية، ظنا منا أنها مدخل للأمان، ونتوه بحثا عن طمأنينة في الماديات لكن لا نجدها بل تكون سببا في ضياعنا أكثر، وان استحضار قوة الله وعظمته هو المدخل الوحيد للإحساس بالطمأنينة.

ما يمكن استنتاجه من خلال قراءة وتحليل هذا المؤلف، أن مصطفى محمود اختار محاوره بدقة، ولامس الجوانب التي تثير الشك لدى الشباب، وطرح أسئلة جريئة غالبا ما يعجز البعض عن طرحها، ليتوصل في الأخير، بالاعتماد على تجربته في دراسة الطب، ان لا تعارض بين الدين والعلم، وأن للدين أهمية بالغة، حيث يمكن من إقامة الضمير، هذا الأخير الذي يتيح لنا توجيه العلم نحو بناء الحضارة، وليس الدمار و "أن الدين لا يرفض الحياة ولا يرفض العقل".

 رغم أن محمود مصطفى نال الكثير من الانتقادات والتهم لحد وصفه بالملحد، وكانت تيارات فكرية اخرى لا تتوافق مع مضمون كتبه وبرنامجه، لكن لا يمكننا انكار أهمية كتبه وعمقها الفكري، إذ تتيح للمرء الخوض في الدين والعلم بشكل متوازن، كما تمكن من خلق روابط بينهما، دون أن يلغي أحدهما الاخر.


القراءة في المغرب: بين الواقع المتعثر وتجارب النهوض

 القراءة في المغرب: بين الواقع المتعثر وتجارب النهوض


سليم ياسين 

لا يختلف اثنان على أن القراءة تمثل ركيزة أساسية في بناء الفرد والمجتمع، ومرآة تعكس دينامية الأمم في مسار التنمية والتحول الحضاري. غير أن واقع القراءة في المغرب، رغم ما تحمله الخطابات الرسمية من آمال، لا يزال يواجه تحديات بنيوية وثقافية عميقة، تتداخل فيها عوامل اقتصادية، تربوية، وسوسيولوجية. فمؤشرات العزوف عن القراءة، خصوصًا في صفوف الشباب، تثير تساؤلات جوهرية حول مكانة الكتاب في المنظومة التعليمية والثقافية، وتدفع إلى إعادة تقييم المبادرات القائمة.


تُجمع التقارير والدراسات الميدانية على أن معدل القراءة الفردية في المغرب يظل ضعيفًا مقارنة بدول أخرى، حتى داخل المحيط العربي. فالمكتبات العمومية قليلة، وضعف الإقبال على اقتناء الكتب لا يُمكن فصله عن الكلفة المرتفعة، ولا عن التحول الرقمي الذي غيّر من عادات التلقي والاستهلاك الثقافي. وفي ظل تراجع المدرسة عن دورها المحوري في ترسيخ عادة القراءة، أصبح من الضروري استحضار التجارب والمبادرات التي حاولت، بدرجات متفاوتة من النجاح، إعادة الاعتبار للقراءة كممارسة مجتمعية.


من بين هذه المبادرات، برز "المشروع الوطني للقراءة" الذي تم إطلاقه بهدف إحداث دينامية جديدة داخل المؤسسات التعليمية، وتحفيز المتعلمين على القراءة الحرة. يقوم المشروع على مقاربة تشاركية تستهدف المتعلمين والمدرسين والمؤسسات على حد سواء، عبر مسابقات، جوائز، وآليات تتبع. غير أن فعالية هذا المشروع، على أهميته، تبقى مرهونة بمدى قدرة المدرسة المغربية على خلق بيئة محفزة للقراءة، سواء عبر تكوين المدرسين، أو تعزيز المكتبات المدرسية، أو دمج القراءة ضمن ممارسات تربوية يومية لا تقتصر على الشعارات.


في السياق ذاته، أفرز "تحدي القراءة العربي" الذي أطلقته دولة الإمارات، حضورًا قويًا في المغرب، إذ برز عدد من التلاميذ المغاربة في مراتب متقدمة على مستوى العالم العربي. وقد شكّل هذا التحدي فرصة لإعادة تسليط الضوء على الإمكانات الفردية الكامنة، وعلى الدور الذي يمكن أن يلعبه التحفيز والمنافسة في نشر ثقافة القراءة. غير أن نجاح هذه التجربة يظل مهددًا إذا لم تتحول القراءة من مجهود ظرفي إلى ممارسة مستدامة. فالمراهنة على الجوائز وحدها لا تكفي، ما لم يصاحبها إرساء بنية تحتية ثقافية متينة، تبدأ من المدرسة ولا تنتهي عند الأسرة والمجتمع المحلي.


ما يمكن استنتاجه هو أن القراءة في المغرب ليست فقط تحديًا تربويًا، بل هي كذلك رهان حضاري وثقافي يتطلب تضافر جهود الدولة والمجتمع المدني، وتجاوز المقاربة الاحتفالية إلى مقاربة مؤسسية دائمة. فالقراءة لا تنمو في الفراغ، بل تحتاج إلى سياسات ثقافية شمولية، تدعم الكتاب، وت الوصول إلى المعرفة، وتُعيد للمدرسة دورها كفاعل ثقافي مركزي. وبين المبادرات الناجحة والمجهودات المبعثرة، يبقى السؤال مطروحًا: هل نملك في المغرب الإرادة الجماعية لتحويل القراءة من ترف نخبوي إلى فعل يومي يُعيد تشكيل وعي الأفراد وطموحات الأمة؟



الجمعة، 2 مايو 2025

العنف المدرسي وانتهاك كرامة الأستاذ: أزمة مجتمع أم إخفاق منظومة ؟



بقلم : سليم ياسين

لم تعد المدرسة، في السياق المغربي، فضاءً آمناً للتعلم والتربية كما كانت تُصوَّر تقليديًا. فقد أصبح العنف بمختلف أشكاله يتسلل إلى أسوارها، حتى بات بعض الأساتذة ضحايا له، لفظيًا وجسديًا، من قبل تلامذتهم أو محيطهم. هذه الظاهرة، التي تتنامى في ظل تحولات اجتماعية وتربوية عميقة، تطرح تساؤلات جوهرية حول مكانة المدرسة في المجتمع، ودور الأستاذ الذي تراجع من موقع الهيبة إلى موقع الاستضعاف. في هذا المقال، نسلط الضوء على مظاهر العنف داخل المؤسسات التعليمية، أسبابه، انعكاساته، وسبل معالجة الوضع بما يضمن كرامة المدرّس وجودة الفعل التربوي

يُعتبر العنف داخل المؤسسات التعليمية من الظواهر التي باتت تشكّل مصدر قلق حقيقي للأسرة التربوية والمجتمع ككل، نظرًا لتأثيره السلبي على سير العملية التعليمية وعلى العلاقات داخل الفضاء المدرسي. وتتخذ هذه الظاهرة أشكالًا متعددة تتفاوت من حيث الشدة والخطورة، وتنبع من عوامل فردية واجتماعية ومؤسساتية متداخلة.

يظهر العنف الجسدي بشكل واضح من خلال المشاجرات المتكررة بين التلاميذ، والتي قد تصل إلى استعمال أدوات حادة أو إلحاق أذى جسدي خطير بالآخرين، كما لا تخلو بعض المؤسسات من حالات اعتداء تلاميذ على أساتذتهم أو أطر الإدارة، مما يعكس تراجعًا في سلطة المدرسة وفي احترام رموزها. إلى جانب ذلك، نجد أشكالًا أخرى من العنف الجسدي، مثل تعمّد إتلاف ممتلكات الغير أو تخريب البنية التحتية للمؤسسة.

أما العنف اللفظي، فيُعتبر من أكثر الأشكال شيوعًا، ويتمثل في تبادل السب والشتم بين التلاميذ أو في حق الأساتذة، ويتّخذ أحيانًا طابعًا تمييزيًا أو عنصريًا، خصوصًا حين يتم السخرية من المظهر الخارجي أو الوضع الاجتماعي لبعض التلاميذ. وقد يُفضي هذا النوع من العنف إلى آثار نفسية عميقة يصعب تداركها، خاصة إذا كان موجهًا باستمرار لنفس الأفراد.

يتجلّى العنف النفسي بدوره في التنمر، الذي قد يتخذ صيغًا متعددة من الإقصاء الاجتماعي، أو التحقير المتكرر، أو ممارسة ضغط نفسي على بعض التلاميذ، إما من طرف زملائهم أو من أطراف معينة داخل المؤسسة. ويؤدي هذا النوع من العنف إلى ضعف الثقة في النفس، وتراجع الأداء الدراسي، وأحيانًا إلى الانقطاع عن الدراسة.

ومع تطور التكنولوجيا، ظهرت أنماط جديدة من العنف تُمارَس عبر الوسائط الرقمية، حيث أصبح بعض التلاميذ عرضة للتشهير أو التهديد من خلال منصات التواصل الاجتماعي، أو يتم تصويرهم داخل المؤسسة دون علمهم ونشر مقاطع تمسّ بكرامتهم. ويُعد هذا العنف الرقمي امتدادًا للعنف الواقعي، لكنه أكثر خفاءً وأصعب من حيث المراقبة والردع.

ولا ينبغي إغفال العنف الرمزي أو المؤسساتي، الذي يتمثل في غياب الإنصاف داخل الفضاء المدرسي، أو في اعتماد أساليب تربوية تقوم على التهديد والترهيب بدل الحوار والتفاهم، مما يُفقد المدرسة دورها التربوي، ويحوّلها إلى فضاء للضغط والإكراه بدل أن تكون فضاء للتنمية والتكوين.

فمن أولى الأسباب التي تؤدي إلى تفشي العنف المدرسي، نجد ضعف التنشئة الاجتماعية داخل الأسرة. فغياب الحوار الأسري، واستعمال العنف كوسيلة للتأديب، أو الإهمال التربوي، كلها عوامل تخلق لدى الطفل شعورًا بالحيف أو التمرد أو الخضوع للعنف باعتباره وسيلة عادية لحل النزاعات. كما أن التفكك الأسري أو الانتماء إلى بيئات فقيرة ومهمشة يزيد من هشاشة الوضع النفسي للتلميذ، ويُضعف قدرته على التكيف الإيجابي داخل الوسط المدرسي.

من جهة أخرى، يُسهم المحيط الاجتماعي بدوره في تفشي العنف، خاصة حين يكون مشبعًا بثقافة القوة والتسلط ورفض الاختلاف. فوسائل الإعلام، وبعض مضامين شبكات التواصل الاجتماعي، تروج في كثير من الأحيان لصورة البطولة المرتبطة بالعنف، مما يؤثر على وجدان الناشئة ويؤسس لتطبيع غير واعٍ مع السلوك العدواني.

أما داخل المدرسة نفسها، فهناك عدة عناصر يمكن أن تفرز بيئة غير آمنة نفسيًا، منها الاكتظاظ داخل الفصول الدراسية، وغياب الأنشطة الموازية الداعمة، وافتقار الفضاءات المدرسية إلى التجهيزات التي تضمن الراحة والانضباط، ناهيك عن عدم استقرار العلاقة بين التلميذ والأستاذ، خاصة حين تسود أساليب التوبيخ والتقريع دون احتواء أو إنصات. هذا المناخ التربوي المتوتر قد يدفع التلميذ إلى التعبير عن غضبه أو رفضه بشكل عنيف.

كما أن غياب منظومة فعالة للمواكبة النفسية والاجتماعية داخل المدرسة، يشكل سببًا مباشرًا في تفاقم بعض السلوكات العدوانية، إذ لا يجد التلميذ من ينصت إليه أو يواكبه في فترات الأزمات، مما يجعله يتصرف بردود فعل عفوية تتسم بالعنف أو التمرد.

ولا يمكن إغفال أثر ضعف التكوين البيداغوجي في مجال تدبير الصراعات داخل القسم، فبعض الأساتذة قد يفتقرون إلى أدوات التعامل مع المراهقين بطريقة تربوية فعالة، مما يؤدي إلى سوء الفهم وتنامي الاحتقان داخل الفصول الدراسية.

انطلاقًا من هذا التحليل، يمكن القول إن العنف المدرسي لا ينبع من سبب واحد، بل هو نتاج شبكة من العوامل المتشابكة التي تمسّ الطفل في بيئته الأسرية، ومجتمعه، ومؤسسته التعليمية، وحتى في صورته الذاتية. وبالتالي، فإن معالجته تستلزم تدخلًا متكاملاً يجمع بين التربية، والدعم النفسي، والإدماج الاجتماعي، والتأهيل التربوي.

إنّ التصدي لظاهرة العنف المدرسي لا يقتصر على إجراءات سطحية أو ظرفية، بل يقتضي مقاربة شمولية تضع في صلب أولوياتها إصلاح المناخ التربوي، وتعزيز القيم الإنسانية، وتكريس ثقافة الحوار داخل الفضاء المدرسي. فالمؤسسة التعليمية لا ينبغي أن تقتصر وظيفتها على نقل المعارف فقط، بل يجب أن تُؤهَّل لتكون فضاءً آمنًا يضمن النمو المتوازن للمتعلّمين على المستويات النفسية والاجتماعية والسلوكية.

من أولى الخطوات الضرورية في هذا الإطار، إعادة الاعتبار للدور التربوي للمؤسسة، من خلال تقوية العلاقة بين الأسرة والمدرسة، وتشجيع التواصل المستمر بين الأطر التربوية والآباء، بهدف خلق بيئة داعمة للتلميذ في مختلف أبعاده. كما ينبغي تعزيز البرامج التربوية التي تُرسخ قيم التسامح، والتعاون، واحترام الاختلاف، عبر إدماج أنشطة الحياة المدرسية والورشات التحسيسية ضمن المنهاج غير الرسمي.

ومن جهة أخرى، فإن توفير الدعم النفسي داخل المؤسسة يُعدّ عنصرًا حاسمًا في الوقاية من السلوكات العنيفة. إذ تبرز الحاجة الملحة إلى تخصيص موارد بشرية مؤهلة، مثل الأخصائيين النفسيين والاجتماعيين، القادرين على مواكبة التلاميذ الذين يعانون من صعوبات شخصية أو سلوكية، وتقديم الدعم اللازم لهم قبل أن تتحول أزماتهم إلى مظاهر عنف.

في المقابل، يستوجب الوضع التربوي أيضًا تأهيل الأطر التربوية والإدارية في مجال تدبير الخلافات، وتطوير مهارات الإنصات، والتواصل الإيجابي مع التلاميذ. فكلما شعر المتعلم بالاحترام والاحتواء، كلما زادت قدرته على ضبط نفسه وتجاوز توتراته بشكل سليم. كما أن توفير تكوين مستمر للأساتذة حول الذكاء العاطفي، والبيداغوجيا الفارقية، وأساليب التحفيز، يمكن أن يُحدث تحولًا عميقًا في بنية القسم والعلاقات داخله.

ولا يمكن التغاضي عن دور الحياة المدرسية في معالجة العنف، حيث تُمثل الأنشطة الثقافية والفنية والرياضية مجالات رحبة لتفريغ التوتر وبناء الثقة بالنفس، وتعزيز روح الجماعة والانتماء. إن إدماج التلميذ في مشاريع جماعية ذات بعد إبداعي أو تضامني يجعله يُعبّر عن ذاته بطريقة إيجابية، ويطوّر مهاراته الاجتماعية، بدل الانغلاق أو التمرد.

أخيرًا، فإن إعادة الاعتبار للمؤسسة التعليمية تقتضي أيضًا تأهيل فضاءاتها وتجهيزها لتكون بيئة جاذبة وآمنة، تحترم كرامة التلميذ وتُحفّزه على الحضور والمشاركة. فالمؤسسة التي تُوفّر شروط الراحة النفسية والمادية هي نفسها التي تُنتج تلميذًا متوازنًا وسويًّا، وقادرًا على التعلّم والنجاح دون عنف.

في ضوء هذه المعطيات، تبدو معالجة العنف المدرسي مهمة جماعية تتقاسمها الأسرة، والمدرسة، والمجتمع، وتقوم على رؤية تربوية تؤمن بأن التلميذ ليس فقط متلقّيًا للمعرفة، بل إنسانًا في طور التكوين، يحتاج إلى العناية، والتقدير، والحوار المستمر.




عربي باي